د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
أحوال الأمة الإسلامية إحدى خطب الجمعة للدكتور راغب السرجاني، يتناول فيها أمراض الأمة الإسلامية، فما هي؟ وما علاج هذه الأمراض؟
الناظر لأحوال الأمة الإسلامية الآن يجد أن هناك الكثير من الأمراض التي استشرت بين أبناء الأمة العظيمة، وهي أمراض لا تتناسق ولا تتناسب مع الصفة التي وصف الله U بها هذه الأمة في كتابه الكريم ولا يتناسق مع المكانة التي أرادها الله U لأمة الإسلام، ومن هذه الأمراض الخطيرة، مرض اليأس والإحباط والقنوط والشك في نصر الله U واعتقاد أن نصر الله لو جاء فإن ذلك يحدث بعد قرون عديدة، والله سبحانه قال في كتابه الكريم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
فكيف لهذه الأمة العظيمة التي مدحها الله -سبحانه- أن يتسلل إليها اليأس والإحباط، وإن هذا ليس من شيم المؤمنين، فقد قال الله تعالى: {وَلاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87] ، {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر : 56] ، فليس المؤمن الذي يقنط وييئس ويحبط مهما بلغت حال الأمة من الضياع، فيجب أن يرفع رأسه لأنه مسلم وليتذكر قول ربه سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران : 110]
ينظر كثير من المسلمين إلى واقع الأمة الآن فيجد تبعية لغيرهم وضعفًا عسكريًّا واجتماعيًّا وفكريًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا، بل يرون ضعفًا أخلاقيًّا وعقائديًّا لأمة أراد الله -سبحانه- لها أن تقود الأمم، فما تفسير ذلك؟ وما تفسيره لمن نظر لحالنا وواقعنا؟
يفسر ذلك كله قول الله تعالى في كتابه: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]، فالأمم كلها التي خلقها الله -تعالى- تضعف أحيانًا وتقوى أحيانًا، وتقوم أحيانًا وتسقط أحيانًا، وتعز أحيانًا وتذل أحيانًا، قال تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].
فكثيرًا من الأمم غير أمة الإسلام تموت أبدًا بلا عودة، أما أمة الإسلام فقد وعد الله -سبحانه- أن تبقى ليوم القيامة فمهما سقطت أو ضعفت فلا بد لها من قيام، ولا بد لها من قوة وتمكين؛ ذلك لأننا نحمل الرسالة الخاتمة من الله U إلى خلقه، فمن يحمل الخير والرسالة للعالم إذا فنيت أمة الإسلام؟!
فإذا فنيت أمة الإسلام فاعلم أن ذلك يوم القيامة؛ لأن الله لا يعذب أمة إلا برسول {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاَ} [الإسراء: 15]. ورسولنا محمد r خاتم الرسل والأنبياء ورسالة الإسلام خاتمة الرسالات، فالله تعالى يحفظ الخير للعالم بحفظه لأمة محمد r في كل زمان ومكان.
فالذي ييْئَس لا يفهم تلك الحقائق ولا يفهم حقيقة المعركة القائمة، إنها معركة بين الله U وبين المارقين عن دينه وعبادته ومنهجه، وإن نصر الله U محتوم؛ لأن قوة الله غالبة وجنده هم الفائزون، قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]. ويقول تعالى:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 15-17]، وقال تعالى:{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
فالله -سبحانه- ينسب القوة والمكر والغلبة له سبحانه وحده، ولا ينسبها لغيره، فإذا كنا نقدر الله تعالى حق قدره فلا يجوز لمسلم أن يقنط أو ييأس أو يشك أن دولة الإسلام قادمة وأن النصر للمؤمنين؛ فقد روى مسلم في صحيحه عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r "إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا". وفي صحيح ابن حبان عن المقداد بن الأسود والحاكم في مستدركه عن تميم الداري t قال: سمعت رسول الله r يقول: "ليبلغن هذا الأمر مبلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل يعز بعز الله في الإسلام، ويذل به في الكفر".
فليس بعد ما ذكره الله -سبحانه- ورسوله r من شكٍ في النصر والتمكين، فباطن الأرض أولى للشاكِّين من ظاهرها، والله تعالى يصف حال هؤلاء الشاكِّين فيقول:{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15]، فمن كان يظن في نصر الله تعالى فليصنع لنفسه مشنقة ويقطع عنق نفسه، لا حاجة للمسلمين في رجل يائس أو امرأة يائسة، فنصر الله تعالى قادم وتمكين الأمة قريب، يقول تعالى: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 50-58].
ونظرة واحدة لتاريخ الأمة الإسلامية يملأ القلب يقينًا بنصر الله -تعالى- وتمكينه، فلا مجال لليأس مهما عظمت قوة المجرمين ومهما علا القهر والبطش والاستبداد فلا بد من إيمان وتعلق بالله سبحانه وتلك سنة الله U؛ ففي صحيح البخاري عن خباب بن الأرت t قال: شكونا إلى رسول الله r وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو الله لنا؟! قال r: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه, والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
وكانت النتيجة أن خبابًا t ثبت ولم يتزعزع، ولم يبدل ولم يغير، ثم لم يستعجل بعد ذلك، حتى إنه قد سأله عمر بن الخطاب t عما لقيه في ذات الله تعالى، فكشف خباب عن ظهره فإذا هو قد برص (مات جلده) ففزع عمر بن الخطاب وقال: ما رأيت كاليوم. فقال خباب: يا أمير المؤمنين، لقد أوقدوا لي نارًا ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجلٌ رِجْلَه على صدري فما اتقيت الأرض إلا بظهري، وما أطفأ تلك النار إلا شحمي.
فإن ما وصل إليه الصحابي خباب بن الأرت t ليس داعيًا إلى الاستعجال وليس داعيًا إلى القنوط واليأس، فما غضب الرسول r عندما طلب خباب بن الأرت منه الدعاء إلا لأنه شم رائحة اليأس، وما هي إلا أيام مرت وهاجر النبي r إلى المدينة المنورة وقامت دولة الإسلام، وما هي إلا سنوات معدودات حتى بلغ الإسلام دولة الصين في المشرق وأوروبا في المغرب كل ذلك في أقل من مائة عام.
وما ذلك إلا بنصر من الله تعالى وتأييد منه، ووعد منه، وإن وعد الله -سبحانه- كان في الماضي وسيكون في المستقبل إن شاء الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
التعليقات
إرسال تعليقك